تيري إيجلتون: الكوميديا ​​الإلهية لجيمس جويس

الكوميديا الإلهية لجيمس جويس

مقال تيري إيجلتون

ترجمة: ماهر عبد الرحمن

نشر في مجلة UnHerd ، أغسطس 2022

نشرت الترجمة للمرة الأولى في موقع Boring books بتاريخ 17 سبتمبر 2025

كانت ذكرى وفاة دانتي عام 1321 من أهم المناسبات الأدبية في العام الماضي، بينما يصادف هذا العام الذكرى المئوية لظهور رواية “عوليس” لجيمس جويس. للوهلة الأولى، قد يبدو من الصعب العثور على كاتبين أكثر تناقضًا من هذين. فدانتي، الصوت الشعري للمسيحية في العصور الوسطى، سامٍ ومهيب. أما جويس، متمرد حداثي ومُجَدِّف، سوقي وفاحش، وصفته فرجينيا وولف بأنه “طالب جامعي مضطرب يحكّ بثور وجهه”.

يتناول دانتي قضايا كبرى مثل الجنة والجحيم، والكنيسة والدولة، بينما يرفض جويس كل ذلك بازدراء. وقد شبّه أحد النقاد الإنجليز المذعورين رواية “عوليس” بقصفٍ شنّه الجمهوريون الأيرلنديون. وعلّق أحد رؤساء جامعة ترينيتي في دبلن بأن الرواية تُظهر مدى الخطأ في تأسيس كلية جامعة دبلن، حيث درس جويس، “لسكان هذه الجزيرة الأصليين، ولأولاد الشوارع الذين يبصقون في نهر ليفي”.

ومع ذلك، هناك الكثير من القواسم المشتركة بين الكاتبين، صحيح أن لغة الكوميديا الإلهية لدانتي قد تبدو رنانة أكثر من اللازم لآذان القرّاء المعاصرين، لكنها أيضًا لغة الشارع: خشنة وحادة، مليئة بالشتائم والإهانات. وقد اختار دانتي الكتابة باللغة العامية (وبالتالي للقارئ العادي) بدلًا من اللاتينية، وبذلك لعب دورًا رئيسيًا في ترسيخ اللغة الإيطالية اليومية كلغة أدبية لشعبه. وكان لهذا الخيار أثر ثوري على الكتابة في الثقافات الأوروبية الأخرى أيضًا.

أما جويس، فقد امتلك أذنًا مرهفة بشكل مذهل لالتقاط لغة أبناء الطبقة العاملة في دبلن، ورواية “عوليس”، التي تغمرها أحاديث الحانات، والنميمة، والجدل السياسي، والسخرية اللاذعة، تُعد من أوائل الروايات باللغة الإنجليزية التي تصوّر ما يُمكننا تسميته اليوم بـ”الثقافة الجماهيرية”. فهي تتضمن صحافة التابلويد، ومصطلحات علمية، ومحاكاة ساخرة لأدب النساء الرومانسي، ولهجة تعبيرية مصغّرة، ولغة اللاوعي، والكثير غير ذلك. ولهذا، لا يوجد بالفعل جواب محدد لسؤال “ما هو أسلوب جويس؟’ على الرغم من أنه كان قادرًا على قضاء أيام متتالية في نحت جملة واحدة.

ومثل مواطنه صامويل بيكيت، كان لدى جويس افتتان شديد بالعادي واليومي. فكلاهما جاء من جزيرة صغيرة فقيرة، وصفها جويس بازدراء بأنها “فكرة لاحقة لأوروبا”. وكلاهما ظلّ وفيًا لما هو متواضع وغير بارز.

هذا الفنان شديد التدقيق شبّه عقله ذات مرة بعقل مساعد بقال، وهناك اليوم في أيرلندا أصحاب متاجر وسائقو سيارات أجرة يحاولون قراءة بعض أعماله، تمامًا كما قد يحاولون قراءة أعمال ييتس أو شيموس هيني. ففي الدول الصغيرة، يمكن للكتّاب أن يكونوا أقل خصوصية وأكثر شبهًا بالمؤسسات العامة. وقد لا يكون هناك الكثير من الشخصيات العامة الأخرى التي يمكن أن يفتخر بها الناس. ومع ذلك، فإن رواية جويس العظيمة تُعرف أيضًا بصعوبتها وغموضها، بحيث تتداخل الحياة اليومية وتجارب الحداثة العالية جنبًا إلى جنب. يكاد يكون من المستحيل أن نجد كاتبًا حداثيًا آخر يجمع بين الغموض والواقعية في آن واحد. ويظهر مزيج مشابه لدى دانتي، الذي تتراوح شخصيات قصيدته بين الكائنات السماوية والمحتالين والكرادلة المنحرفين.

إذا كان دانتي قد انتقل من اللاتينية إلى اللغة العامية، فقد كان جويس أيضًا عالقًا بين لغتين. كما هو الحال مع ييتس وأوسكار وايلد، لم يكن يتحدث الأيرلندية بنفسه، ولكن في أعمال الكُتّاب الثلاثة، يمكنك أن تشعر كيف تنحرف الإنجليزية القياسية قليلًا بتأثير الأيرلندية. بخلاف الكاتب المسرحي ج. م. سينج، الذي قيل إنه كتب بالإنجليزية والأيرلندية في آنٍ واحد، فإن جويس لا يكتب تمامًا بلغته الأم، بل إنه يستخدم لغة ما كان جزء منه يعتبرها لغة الغازي الإمبريالي. ومع ذلك، فإن تحرره من التقاليد الاجتماعية والفنية الإنجليزية هو بالضبط مصدر موهبته، كما أشار هو نفسه ذات مرة. كان حرًا في التحسين والتجريب. غير مُقيّد بهذه المعتقدات التقليدية، وكذلك كان الحال مع وطنه الأم، أقدم مستعمرة بريطانية، والتي أصبحت في عام نشر “عوليس” دولة أيرلندا الحرة. وبصفتها أول دولة ما بعد استعمارية في القرن العشرين، لم يكن لديها الكثير من النماذج التي تحتذي بها، وكان عليها أن تُكون هويتها وهي تمضي قدمًا.

لم يكن جويس حاضرًا ليشهد هذه التجربة، فبما أنه كان يحتقر رجال الدين والقوميين على حد سواء، لجأ إلى واحدة من أقدم العادات في أيرلندا: مغادرة البلاد. لا شيء أكثر أصالةً في الثقافة الأيرلندية من المنفى، فمنذ المجاعة الكبرى في أربعينيات القرن التاسع عشر، التي أودت بحياة مليون شخص وأجبرت ملايين آخرين على الفرار، كان عدد الأيرلنديين الذين يعيشون خارج البلاد يفوق عدد من يعيشون فيها. أما نفي جويس الذاتي إلى باريس وزيورخ وترييستي، فكان حدثًا أكثر امتيازًا، لكنه عَكَس بطريقته الخاصة مصير مواطنيه، فكما لم يكن بإمكانهم البقاء ماديًا في واحدة من أكثر دول أوروبا ركودًا اقتصاديًا، لم يكن بإمكان سلالة كاملة من الفنانين مثل جويس وبيكيت أن تبقى روحيًا أيضًا، فقد كانوا بلا مأوى ونازحين ومجردين من أي هوية مستقرة، جسّدوا حالة الإنسان الحديث الجذرية. وكمواطنين عالميين تائهين بين ثقافات متعددة، رفضوا تقاليدهم الوطنية، وأقاموا لأنفسهم وطنًا في اللغة العالمية للفن. وهكذا، في عدد لا يحصى من المقاهي متعددة اللغات والثقافات، من باريس إلى سانت بطرسبرج، وُلدت الحركة الفنية التي نعرفها بالحداثة.

كان دانتي، هو الآخر، منفيًا، وكما فعل جويس، ندّد بما رآه فسادًا في كل من الكنيسة والإمبراطورية (في حالته، كان فسادًا رومانيًا مقدسًا لا فسادًا بريطانيًا)، ودفع ثمنًا باهظًا لذلك، طُرد من موطنه فلورنسا بتهم سياسية ملفقة، وهُدد بالحرق حيًا إن عاد، فقضى بقية حياته هائمًا، يجوب بحسب كلماته “عبر معظم الأقاليم التي تنتمي إليها اللغة الإيطالية، تائهًا، يكاد يكون متسولًا، حقًا كسفينة بلا شراع ولا مقود، تدفعها رياح الفقر القاسية إلى موانئ ومضائق وسواحل شتى”. أما جويس، الذي كان يكافح لكسب لقمة عيشه بتدريس الإنجليزية في أرجاء أوروبا المختلفة، وجد في هذه التجربة ما يربطه بتجربة دانتي؛ لكن ما جذبه حقًا إلى دانتي كان نزعته المدرسية (السكولاستية).

من الصعب على القارئ الإنجليزي المعاصر أن يشارك هذا الحماس للفلسفة  المدرسية في العصور الوسطى، لكن جويس كان أيرلنديًا، وليس إنجليزيًا، نشأ في ثقافة كاثوليكية تُعلي من شأن الفكر المنهجي، ولا تُعجب كثيرًا بالانفتاح الفكري اللامتناهي. وقد علّق ذات مرة أنه كان سكولاستيًا في كل شيء ما عدا المقدمات، أي أنه كان يقدّر المنطق الصارم للفلاسفة المدرسيين مثل توما الأكويني، رغم أنه لم يكن يؤمن بالإله الذي كانوا يفكرون فيه.

كان أقرب إلى عالم دانتي وتوما الأكويني، الكاتبين الذين يكن لهما احترامًا عميقًا، منه إلى عالم الليبرالية البرجوازية الإنجليزية. وفي روايته المبكرة “صورة الفنان في شبابه”، تقول إحدى الشخصيات للبطل الذي يشبه جويس: “عقلك مشبع تمامًا بالدين الذي تزعم أنك لا تؤمن به”، فهناك طرق عديدة لأن تكون “متدينًا” في أيرلندا، والإلحاد هو أحد أكثرها شيوعًا، وكما تصرخ إحدى شخصيات جراهام جرين في وجه الله: “أكرهك كما لو كنت أؤمن بك”.

عندما قال جويس إن لديه عقلاً يشبه عقل مساعد بقال، لم يكن يقصد فقط أنه مولع بالعادي واليومي، بل إنه يتعامل معه بطريقة منظمة، كما لو كان يرتّب البضائع على الرفوف. ومثل بيكيت، كان جويس مُصنِّفًا مهووسًا، يستحضر أذكى التركيبات من حفنة من عناصر الواقع المتناثرة. لقد كان مفتونًا بكيفية أن تُؤدي حروف الأبجدية الستة والعشرون إلى إنتاج هذا الكم الهائل من الكلمات، فالعالم يمكن رؤيته على أنه لعبة لانهائية من التباديل، تتغير باستمرار لكنها لا تصل إلى أي مكان. لم تحظَ أيديولوجية التقدم، التي تُشكل جوهر الفكر الإنجليزي الحديث، بقبولٍ واسع في أيرلندا، أما المعادل الأدبي للتقدم فهو الرواية الواقعية، التي تروي، كما هو الحال مع جورج إليوت، قصصًا عن عالمٍ يتحسن باستمرار، لكنها ليست شكلًا أدبيًا من المرجح أن يثير إعجاب أولئك الخاضعين للاستعمار، الذين يُختزل تاريخهم في كونه تابعًا لتاريخ الآخرين، ولهذا السبب، فإن أعظم الروايات الأيرلندية – “رحلات جاليفر”، “تريسترام شاندي”، “قلعة راكرينت”، “دراكولا”، “عوليس”، “فينيجانز ويك”، “مالون يموت”، وفي “السباحة بين طائرين” – مناهضة للواقعية بشكل حاسم.

فماذا ينتج عن رؤية العالم على أنه دائم التغير ودائم التكرار في آنٍ واحد؟ بالنسبة لجويس، قد يدعي المرء، أنها فكرة “الكوميديا”، ليست “الكوميديا” ​​بالمعنى المُضحك، مع أن جويس يمكن أن يكون أكثر تسلية من معظم الكُتّاب المعاصرين الآخرين، إنها بالأحرى كوميديا ​​بالمعنى العميق للكلمة، كما في عنوان دانتي “الكوميديا ​​الإلهية”، وهي مسألة رؤية أكثر منها مسألة ضحك، كوميديا ​​من هذا النوع تعني الإيمان بأنه، رغم ما يبدو خلاف ذلك، فإن كل شيء سيكون على ما يرام في النهاية.

وهذا صحيح بطبيعة الحال بالنسبة لمسيحي متدين مثل دانتي، الذي يرى أن الحب قد انتصر مبدئيًا على العنف والكراهية؛ لكنها أيضًا عقيدة جويس الملحد، الذي يرى أن لا شيء في الدورة الكبرى للأشياء يمكن أن يُفقد نهائيًا، بل سيعود في ثوب مختلف، رواياته، التي تدور في حلقات، هي عوالم مصغرة لهذا الكون.

بهذا المعنى، يُعد جويس أكثر الكُتّاب الحداثيين غرابةً، فهو كاتبٌ غير تراجيدي، والكوميديا، في نظره، نوع من الواقعية: لو كان بإمكاننا أن نتخلّى عن أوهامنا وخيالاتنا ونرى العالم كما هو حقًا، لتقبلناه بفرح كوني، والتراجيديا لا تعارض ذلك بالضرورة، بل تلفت الانتباه إلى الألم الناتج عن التحول الذاتي الذي تتطلبه رؤية الأشياء كما هي، وتتساءل عما إذا كان الألم يستحق كل هذا العناء.