كتاب “بنيامين وبريخت: قصة صداقة” بقلم إردموت ويزيسلا 2009

ترجمة ماهر عبد الرحمن

جزء من قراءة بقلم جافن جاكوبسون

لم يكن اللقاء الأول بين فالتر بنيامين وبرتولت بريخت موفقًا. جرى هذا اللقاء في برلين، في نوفمبر 1924، في منزل آسيا لاسيس، الممثلة والمخرجة المسرحية اللاتفية، التي روت في مذكراتها:

“لم تنطلق المحادثة على الإطلاق، وانتهت المعرفة قبل أن تبدأ. شعرت بالارتباك: هل يُعقل أن بريخت، وهو شخص شديد الذكاء، لم يجد ما يشترك فيه مع فالتر، الرجل المفعم بالفضول الفكري والاهتمامات الواسعة؟”

كان بنيامين، البالغ من العمر آنذاك اثنين وثلاثين عامًا، قد أخفق في الحصول على منصب أكاديمي، لكنه بدأ يبرز كأحد أبرز نقّاد الثقافة في ألمانيا. تناولت كتاباته طيفًا واسعًا من المواضيع، شملت الفن، وأدب الأطفال، والطعام، والسينما، والمقامرة، وتحليل الخطوط (علم الجرافولوجي)، والماركسية، والتصوير الفوتوغرافي، والألعاب. وكتب مقالاتٍ حول مفهوم التاريخ، والتأثير الاجتماعي لوسائل الإعلام الجماهيرية، وباريس في القرن التاسع عشر، وأعد وأنتج برامج إذاعية وترجم نصوصًا لبودلير وبروست. لم تكن هناك فلسفةٌ واحدة مُرشدة لأعماله، غير أن أثر بعض التيارات الفكرية كان جليًا، مثل المثالية الألمانية، والرومانسية، والتصوف اليهودي.

أما بريخت الذي كان أصغر من بنيامين بست سنوات، وبحلول وقت لقائهما، كان قد رسّخ مكانته كشاعر وكاتب مسرحي موهوب، إذ امتزجت في أعماله الأولى ـ مثل مسرحيته بعل (التي عُرضت لأول مرة عام 1923) ـ القوةُ الشعرية بالتمرّد الأخلاقي، خاصة في موضوع الجنس. وانحرفت مسرحيات بريخت عن التقاليد الجمالية للميلودراما، مطوّرًا أسلوبًا أسماه “المسرح الملحمي”. وكان يرى أن على المشاهدين ألّا يتماهوا عاطفيًا مع الشخصيات، بل أن يتبنّوا موقفًا نقديًا من مجريات الأحداث التي تعرض أمامهم على الخشبة.

لم يكن ذلك مجرّد خيار جمالي، بل كان نابعًا من التزام بريخت بالماركسية؛ إذ إن انغماس الجمهور في معاناة أبطال مثل هاملت أو لير، من شأنه أن يقوّض الفكرة الماركسية القائلة إن الطبيعة الإنسانية ليست ثابتة، بل نتاج ظروف تاريخية متغيّرة.

تفتحت الصداقة بين بنيامين وبريخت أخيرًا في مايو 1929. وكما يكتب يردموت فيزيسلا في هذا الكتاب المفعم بالمودّة (فالتر بنيامين وبرتولد بريخت: قصة صداقة)، فإن ما جمع بينهما لم يكن مجرّد تقارب بطيء بين الاهتمامات الجمالية والسياسية، ولا حتى تعاونهما في مشروعات مثل مجلّة “الأزمة والنقد” التي لم ترَ النور. بل كان، قبل كل شيء، اختبار المنفى الذي صهر مشاعرهما المتبادلة.

بحلول عام 1933، ومع صعود الاشتراكية القومية، كان آلاف المثقفين والكتّاب قد فرّوا من ألمانيا، وتفرّقوا في أرجاء أوروبا كحطام بشري لثقافةٍ حُطِّمت باسم النظام والتطهير “التوتوني” (في إشارة إلى الجماعة العسكرية والدينية الألمانية التي تأسست في العصور الوسطى).

اعترف بريخت بأن “بشاعة النازية وطابعها المخيف مع تواضع مظهر أفرادها، هما ما منع الكثيرين منا من إدراك مدى خطورة هذا الشر بكل عمقه وما ينطوي عليه من دلالات مدمرة”. وقد غادر إلى الدنمارك في فبراير 1933، بينما رحل بنيامين إلى إبيزا قبل ذلك بعام. ثم أمضى بعض الوقت في نيس وباريس، قبل أن ينضم إلى بريخت في منزله الواقع في منطقة سكوفسبوستراند لفترات طويلة في صيف أعوام 1934 و1936 و1938. وهناك عمل الاثنان في الحديقة، واستمعا إلى الراديو، وقرآ الصحف، وكتبا وعلقا على أعمال بعضهما البعض. وقاما برحلات إلى مدينة سفينبورغ، والأهم من ذلك، لعبا الشطرنج. وليس من قبيل المصادفة أن ثلاثة من أصل أربع صور تجمع بنيامين مع بريخت تُظهرهما وهما يلعبان الشطرنج. كانت اللعبة ساحة لمنافسة ودّية كشفت عن شخصيتيهما المتناقضتين: ثقة بريخت المتقلّبة بالنفس، مقابل تركيز بنيامين الهادئ والحازم (وكان النصر غالبًا ما يميل إلى بريخت).

بصفته مديراً لأرشيف بريخت وبنيامين في برلين، يُعَدّ فيزيسلا الشخص الأقدر على جمع الكمّ الهائل من الرسائل والمذكرات اليومية والمخطوطات والمحاضر والهوامش، ليروي هذه القصة. أحيانًا يبدو الكتاب أشبه بجردٌ أرشيفي، وقد تكون معرفة فيزيسلا الفريدة محبطةً للقرّاء الذين ليست لديهم خلفية سابقة عن كتابات بنيامين أو بريخت. لكن ما يقدمه الكتاب، مع ذلك، هو إظهار الكيفية التي أثّر بها كلٌّ منهما تأثيرًا حاسمًا في عمل الآخر. على سبيل المثال، تتضمّن مسرحية بريخت أيام الكومونة (1948-1949)، التي تتناول صعود وسقوط كومونة باريس عام 1871، أدلةً على نقاشاته مع بنيامين حول إعادة تجديد باريس في خمسينيات القرن التاسع عشر على يد البارون هاوسمان، بينما حمل مشروع بنيامين “الأروقة”، وهو تأمل غير مكتمل وخشن الملمس حول العلاقة بين الكاتب والمدينة، بصمةً واضحة من ديوان بريخت “عشر قصائد من قارئ لأولئك الذين يعيشون في المدن” (1926-1927). ويُبدي فيزيسلا اهتمامًا أكبر بنشأة المشاريع الفكرية وتطورها – تلك الحسابات الهامشية – أكثر من اهتمامه بأجوبتها النهائية.

الافتراض السائد هو أنّ بريخت استغلّ مشاعر بنيامين الصافية وغير المشروطة، أو أنّه أفسد تفكيره بطريقة ما. كان أصدقاء بنيامين حذرين من بريخت. فقد عبّرت جريتل كاربلوس (غريتيل أدورنو) عن “تحفّظات كبيرة”، وكذلك فعل تيودور أدورنو الذي تأسّف قائلاً: “تحت تأثير بريخت، لا يفعل بنيامين سوى أشياء غبية”. أما المؤرخ الفرنسي مارك بلوخ فوصف “الانسجام بين عبقرية بنيامين الإسكندرانية – يُستخدم عادةً بصورة مجازية للإشارة إلى العبقرية المرتبطة بالتقليد السكندري، مدينة الإسكندرية القديمة، وبالأخص مكتبتها ومدرستها الفكرية الشهيرة) وعبقرية بريخت الخام” بأنه “أمر يثير العجب إلى أبعد حد”، بينما أشار الصحفي جونتر أندرس، الذي كان متزوجًا في فترة ما من حنة آرنت، إلى الاختلافات الكبيرة “في الأسلوب والخلفية الاجتماعية”. واتّهم الفيلسوف والمؤرخ جرشوم شولِم، صديق بنيامين منذ عام 1915، بريختَ بأنّه أبعد بنيامين عن التقاليد اليهودية ووجّهه نحو الماركسية.

يقدّم كتاب فيزيسلا تصحيحًا مرحّبًا به لهذا التصوّر المتخيَّل، فمن الواضح أنّ شعر بريخت قد أسرَ بنيامين. وكان بنيامين هو من طلب أولًا لقاء بريخت، وهو من روّج بلا كلل لأعماله، عارضًا إياها على المجلّات كما يفعل وكيل أدبي. يشير فيزيسلا إلى أنّه، بخلاف أسلوب بنيامين “النمطي” ــ أي أنّ نصوصه الخاصة كانت تُكتب من دون اختراع حبكة أو استخدام أدوات شعرية مثل الوزن أو نظام القافية، رأى بنيامين ” شيئًا أصيلًا في الصلة بين النيّة السياسية والعرض الإبداعي الذي كان بريخت يطمح إليه”.

لكن بريخت وجد في بنيامين، كما وصفته حنّة آرنت، أهم ناقد في ذلك الزمن، شخصًا دعم جهوده وأدرك أصالته داخل جمهورية الأدب المنفية الممزقة. وكان بنيامين أول من شجّع بريخت على إبراز الجوهر السياسي المناهض للفاشية في شعره. كما كان قارئًا موثوقًا للمخطوطات التي أطلعه بريخت عليها، ومرجعًا للمعرفة والرأي أثبت أنه عنصر حاسم في تطوّره كشاعر وكاتب مسرحي.

يصف فيزيسلا صداقةً قائمة على “تفاهم تآمري”، نكات خاصة، أسرار مشتركة، وطموحات مشتركة. يتألق هذا التناغم بشكل أكبر في ظلّ الفوضى التي سادت أوروبا في ثلاثينيات القرن العشرين. يتألق فيزيسلا في الربط بين “الفقدان العرضي للإيمان بالتقدّم” لدى بنيامين وبريخت وبين تطوّر أنماط جمالية بعينها. تعكس تقنيات التقطيع، والاقتباس، والصدمة، والتجريب، والمونتاج الطبيعة المضطربة المتزايدة للسياسة الأوروبية آنذاك.

في سبتمبر 1940، خطّط بنيامين للهروب إلى الولايات المتحدة عبر البرتغال، بعدما أصبح واضحًا أنّ الحياة في أوروبا الخاضعة لاحتلال النازيين ستغدو لا تُطاق. وعندما رفض المسؤولون عند الحدود منحه ورفاقه حقّ العبور عبر إسبانيا، أنهى حياته في قرية صغيرة بجبال البرانس. كان فقيرًا – فالكتابة المستقلة لم تكن تدرّ دخلًا كافيًا – وعرضة للاكتئاب، وقد فكّر في الانتحار من قبل. ومع تأسيس الرايخ الثالث عام 1933، صار محكومًا عليه بالتيه الأبدي، لا كمهاجر بل كلاجئ. وأصبح واحدًا من أولئك المنفيين الذين وصفهم جوبلز بأنهم “جثث تنتظر دورها”.

يُنقش على النصب التذكاري خارج المقبرة التي دُفن فيها عبارة مأخوذة من مقاله “حول مفهوم التاريخ” “إن تكريم ذكرى المجهولين أشقّ من تكريم ذكرى المشهورين”. يقع النصب على خليج صغير يطلّ على البحر الأبيض المتوسط، حيث يموت مهاجرو ولاجئو الشرق الأوسط اليوم بنفس القسوة والموت المجهول. لم يصل خبر انتحار بنيامين إلى بريخت إلا في صيف عام 1941.

حول انتحار اللاجئ: ف. ب

(القصيدة من ترجمة أحمد حسان)

قيل لي إنك رفعت يدك ضد نفسك

متوقعاً السفاح.

بعد ثماني سنوات في المنفى، تراقب صعود العدو

حين بلغت، أخيراً، حدوداً لا يمكن اجتيازها

يقولون إنك اجتزت أخرى ممكنة الاجتياز .

الامبراطوريات تنهار. زعماء العصابات

يتبخترون كرجال الدولة. والشعوب

لم تعد ترى تحت كل تلك الأسلحة.

هكذا يرقد المستقبل في الظلام وقوى الحق

ضعيفة. كل هذا كان واضحاً لك

حين دمرت جسدا قابلا للتعذيب

كان التكريم الشعري هو السبيل الوحيد الذي عرفه برتولت بريخت لتكريم صديقه الغائب، الذي جلس ذات مرة “على طاولة الشطرنج في ظل شجرة الكمثرى”، بينما كان العالم من حولهما ينهار.

نص المقال جافن جاكوبسون:

https://www.newstatesman.com/culture/2016/08/checkmate-broken-republic-benjamin-and-brecht

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *